عبير ع.
نهى سعداوي
المصدر: London Review of Books | الكاتب: مايكل شيسوم (Michael Chessum) | تاريخ النشر: 23 جوان/يونيو 2023
غادر قارب الصّيد “أدريانا” ميناء طبرق الليبية في العاشر من جوان/يونيو 2023، في محاولة للوصول إلى الأراضي الإيطاليّة. كان على متنه 750 شخصا، من بينهم ما يزيد عن 100 طفل. وبعد انقضاء ما يقارب الأربعة أيّام في عرض البحر، تعطّل المحرّك، وتقطّعت السّبل بالرّكّاب على مسافة 50 ميلا من سواحل شبه جزيرة بلبونس اليونانيّة. وفي السّاعات الأولى من صباح الـ14 من ذات الشهر، انقلب القارب. علق المئات بداخله، ولم يكن بحوزة أي منهم سترة نجاة.
هذا المشهد المروّع أشبه برؤيا من الجحيم، ولكنه ليس في الحقيقة سوى لمحة بسيطة ممّا يخبّئه لنا المستقبل. وفق تقديرات معهد الاقتصاد والسّلام (Institute for Economics and Peace)، سيكون أكثر من مليار شخص عرضة لخطر التشريد بحلول منتصف القرن جرّاء التهديدات البيئية. وهكذا ستزداد هيمنة مسألة السياسة الحدودية على سياساتنا، وستجد دول الشمال نفسها أمام أمرين: إمّا تليين سياستها الحدوديّة والتوجه نحو تخفيف حدّة النقاشات المحلّية حول الهجرة، وإمّا تشديدها وتحويل بحارها وأراضيها الحدوديّة إلى مقابر جماعيّة.
ستجد دول الشمال نفسها أمام أمرين: تليين السياسة الحدوديّة والتوجه نحو تخفيف حدّة النقاشات المحلّية حول الهجرة، أو تشديدها وتحويل بحارها وأراضيها الحدوديّة إلى مقابر جماعيّة.
من الجليّ هنا أيّ الأمرين يبدو أكثر احتمالا. فالاتّحاد الأوروبي يعمل جاهدًا على مزيد حشد موارده للحيلولة دون بلوغ المهاجرين القارّة الأوروبية. منذ عام 2014، تجاوز عدد المهاجرين المفقودين في المتوسط 28.000 شخص. بعد البريكست، باتت السياسة الحدودية في المملكة المتّحدة بمثابة انسحاب كلّي من الاتفاقيات الدّولية المتعلّقة بحقوق اللاّجئين. فبمقتضى تحيينات سنة 2023 لقوانين الهجرة، لن يتاح لأحد تقديم طلب لجوء ما لم يُسجِّل دخوله الحدود بطريقة نظاميّة، الأمر الذّي يُعدُّ مستحيلا بالنّسبة لأغلب اللاّجئين. وعلاوة على ذلك، سوف يُمنع أيّ شخصٍ دخل المملكة المتّحدة بطريقة غير نظاميّة من طلب اللجوء أو التقدّم للحصول على الجنسيّة، وكذلك الأمر بالنسبة لعائلته. كما تخطّط الحكومة لإيواء طالبي اللّجوء على متن عبّارات (مراكب بحرية).
السياسة الحدودية الأوروبية وعنصرية الإعلام
يقوم جزء مهم من نظام الحدود الجديد على التخلص من تعاطف الرأي العام واهتمامه. فيوم غرق قارب أدريانا، ركز الإعلام البريطاني على مهزلة تقرير لجنة الامتيازات، وإدانتها لبوريس جونسون. بينما كشفت البي بي سي عن أدلة تثبت مغالطة السلطات اليونانية بشأن دورها في الحادثة، لكنّ هذا لم يساهم كثيرا في نشر حيثيات القصة. خبر الـ500 حالة وفاة لم يكد يظهر على أغلفة الصحف البريطانية. وبعد يومين، بالكاد تناولت نشرات الأخبار الحادثة أصلا. وقد تابعت العديد من وسائل الإعلام لبعض الوقت الإبلاغ عن الوفيات المؤكدة فقط -بلغت حوالي 80 شخصا- رغم أنه من الواضح أن المئات كانوا على متن القارب، وهم الآن في عداد المفقودين. حوادث الغرق السابقة ذهبت طي النسيان رغم فداحة الخسائر البشرية. وكان من بينها الحادثة التي شهدتها سواحل كالابريا في نهاية شهر فيفري/فبراير 2023، وأسفرت عن وفاة 94 شخصا على الأقل.
بتاريخ 18 جوان/يونيو 2023، اختفت الغواصة تيتان في أعماق المحيط الأطلسي، وعلى متنها 5 سياح أثرياء. حظيت الحادثة بتغطية واسعة عالميا لعملية البحث التي لم تسفر عن العثور على ناجين. وقد شاركت في البحث العديد من القوات البحرية وسفن البحث. أرسل حرس السواحل الأمريكية إشعارات فورية إلى جوّالات المهتمين بمتابعة عملية البحث، وأعلن البيت الأبيض أن الرئيس بايدن كان يتابع الأحداث عن كثب. وبتأكُّد تعرُّض المركبة لانفجار داخلي كارثي، نشرت كل الصحف اليومية البريطانية -تقريبا- الخبر على صفحاتها الأولى، وقد تضمّنت الكثير منها صور الموتى الخمسة.
اليمين المتطرف ينجح في فرض أجنداته العنصرية
الغرق الجماعي للمهاجرين لم يستوفِ المعايير الكاملة للقصة الجالبة للاهتمام بالنسبة لوسائل الإعلام؛ لأن الضحايا قد سُلِبوا صفتهم الإنسانية. هذا ما أوصلتنا إليه قرون من التكييف العنصري، لكن ثمّة أيضا استراتيجية جديدة قيد التنفيذ. لدى كل من دونالد ترامب وسويلا برافرمان (Suella Braverman – وزيرة الداخلية البريطانية في 2023) مسحة غباء تطمئن المعلّقين الليبراليين، وتدفعهم للاعتقاد بأن وجود اليمين المتطرف في السلطة ليس سوى ومضة عابرة. والحقيقة أنّ مشروعهما خطير للغاية، وله مخلّفات على المدى البعيد. فقبل عشرين عاما، ما كان أحد ليتوقّع أشياء مثل جدار ترامب “الضخم الجميل”، ومخطط الحكومة البريطانية لترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا. يقوم جوهر خطاب اليمين القومي على تحميل المهاجرين والأجانب مسؤولية تدني مستويات المعيشة. وهيمنة هذا الخطاب على الرأي العام حاليا تغذي المطالب الشعبيّة بعسكرة الحدود.
جوهر خطاب اليمين القومي يقوم على تحميل المهاجرين والأجانب مسؤولية تدني مستويات المعيشة. وهيمنة هذا الخطاب على الرأي العام حاليا تغذي المطالب الشعبيّة بعسكرة الحدود.
أحزاب المنظومة الحاكمة في أوروبا والعالم الغربي، من الوسط ويسار الوسط، مترددة في أفضل أحوالها بشأن تقديم رؤية بديلة لكيفية التعامل مع الهجرة في ظل الانهيار البيئي. أما في البرلمان الأوروبي، فإن الاشتراكيين الديمقراطيين يعارضون التجاوزات التي يقترحها اليمين المتطرف بخصوص الهجرة. لكنهم يدعمون المبدأ الأساسي المتمثل في تشديد المراقبة على الحدود الأوروبية. جلبت عهدة إيمانويل ماكرون الرئاسية بعضا من أكثر تدابير الهجرة سلطوية في تاريخ فرنسا. فيما انصب اهتمام حزب العمال بقيادة كير ستارمر (Keir Starmer) على كشف “فقدان المحافظين السيطرة على الحدود”. من جهة أخرى، استغل الديمقراطيون الاشتراكيون الدنماركيون فترة تولّيهم مقاليد الحكم لتكثيف عمليات الترحيل، وشن عمليات إجلاء جماعي للجاليات المهاجرة. بل وسعوا في فترة وجيزة إلى إبرام اتفاقية احتجاز خارجي مع رواندا.
في المقابل، يعرف اليمين القومي ما يريد، ويعمل على استقطاب الرّأي العامّ لصالحه. سياسات الهجرة غير الإنسانية اليوم ليست إلا عمليات إحماء. يتفق العديد من السياسيين التقدميين مع شعار “أوقفوا القوارب الصغيرة” وإن على مضض.لكن وراء الشعار أجندة أوسع تهدف إلى تليين مواقف عامة الناس تجاه جريمة ضد الإنسانية. وإذا ما أخذنا كارثة القارب اليوناني الأخيرة مثالا، فإنّ هذه الاستراتيجية ناجحة.