إسكندر مثلوثي
نهى سعداوي
المصدر: The New York Review of Books – بتصرف | الكاتب: بيل ماكيبين | تاريخ النشر: 6 أكتوبر 2022
تغير مناخي بنسق وحشي
يمكن فهم أزمة المناخ على أنها تجربة تتناول نسق التغيّر. لقد أحرقنا في بضعة عقود ما تبقى من حياة نباتية وحيوانية عمرها مئات ملايين السنين، وبهذا نحن نعرّض الكوكب لتغيرات تستغرق في العادة عصورا. فجأة، أصبح الزمن السحيق يمضي مثل فيلم يعرض تفتّح زهرة في ثوان. في لحظة جيولوجية، رفعنا المعدل العالمي السنوي لدرجات الحرارة بمقدار درجة مئوية، سرعان ما ستلحقها الثانية. ووفق مسارنا الحالي، نتجه نحو زيادة بدرجة ثالثة. التساقطات، وحرائق الغابات، وارتفاع مستوى سطح البحر، والعديد من الأنظمة الأخرى تشهد تحولات مدهشة شهريا وموسميا. هذا النسق وحشي حقا.
ولتلك التجربة في الزمن نتائج أكثر كارثية على الفضاء الجغرافي. فالارتفاع السريع في درجات الحرارة يدفع فصائل النباتات والحيوانات والبشر إلى التنقل نحو القطبين والمناطق الأعلى والأكثر برودة. انطلقت هذه الهجرة فعليا، وبدأت تؤثر على الاستقرار البيولوجي والسياسي. وإذا كان لدينا أي أمل في تفادي تمزيق نسيجنا البيئي والحضاري بصفة دائمة، علينا التمعن في هذه المسألة والعمل بحزم.
باستثناء أننا نحن وأبناؤنا وأبناء أبنائنا قد ننشغل بمشكلة أخرى، وهي العثور على مكان نعيش فيه، فقد اختار البشر خلال الستة آلاف سنة الماضية على الأقل، وفق الأكاديمي الدنمركي ينس كريستيان سفينينج (Jens-Christian Svenning)، التمركز في رقعة ضيقة يبلغ متوسط درجة الحرارة فيها 13 درجة مئوية، وتتميز بدرجة رطوبة منخفضة نسبيا. وتمتد هذه الرقعة على جزء كبير من أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية والجنوبية والشرق الأوسط والصين الشرقية واليابان. يتراوح مناخ هذه المنطقة بين المعتدل والمتوسطي. وهي منطقة جذابة للأسباب التالية: قدرة صغار الفلاحين على العمل في الهواء الطلق دون حاجة للاحتماء من فرط الحرارة أو البرودة، وارتفاع مردودية المحاصيل وقطعان المواشي، والتأثير الإيجابي لدرجات الحرارة المعتدلة على المزاج والصحة النفسية.
ربما لا تعد “هجرة” هذه المنطقة نحو الشمال مشكلة مستعصية. فليس غريبا أن ينتقل سكان مقاطعة نابا بولاية كاليفورنا إلى ولاية أوريغون ثم إلى كولومبيا البريطانية في كندا. كانت درجات الحرارة القياسية المسجلة في المملكة المتحدة خلال هذه الصائفة قاسية على من لا يمتلكون مكيفات، ولكنها قسوة نسبية إذا أخذنا بعين الاعتبار مشكلة أكبر: معظم أنحاء العالم التي باتت درجات الحرارة فيها أعلى من المتوسط ستصبح حرارتها قاتلة. أقل من 1% من مساحة الكوكب يزيد متوسط حرارتها عن 29 درجة مئوية، وتقع في معظمها حاليا بمنطقة الصحراء الكبرى. ولكن النمذجة الحاسوبية تظهر أنه خلال الخمسين عاما المقبلة، قد تصبح هذه الدرجات شائعة في معظم المناطق الاستوائية، والتي من المتوقع أن تكون موطنا لـ 3.5 مليار شخص. الحياة هناك ستصبح شبه مستحيلة. وشدة ارتفاع درجات الحرارة ستحول دون العمل بالخارج.
كي تتمكنوا من تخيل الوضع اقرؤا الفصل الأول من رواية “The Ministry for the Future”. كاتبُها كيم ستانلي روبينسون (Kim Stanley Robinson) يتحدث عن موجة حر جنونية تجتاح الهند. اقرؤوا تقارير الصحف عن موجات الحر التي اجتاحت الهند في ربيع 2022، والصين خلال صيف 2022، أو السيول الهائلة التي غمرت ثلثي باكستان في نهاية أوت/أغسطس من نفس السنة، فكادت تحوّل نهر السند إلى بحر داخلي.
الهجرة المناخية بدأت بالفعل
موجة الهجرة بدأت بالفعل. أفاد المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في أواخر ماي/ مايو 2022 أن عدد المهجرين قسريا في العالم بلغ 100 مليون شخص للمرة الأولى في التاريخ. خلال العام الفارط (2021)، كانت “النزاعات المسلحة” وراء نزوح 14.4 مليون شخص، أما “الظواهر المرتبطة بالطقس” فأجبرت 23.7 مليون شخص على الهجرة – ولكن الفصل بين العاملَين غالبا ما يكون صعبا. فالحرب السورية التي خلّفت أعدادا هائلة من اللاجئين جاءت في أعقاب أسوأ موجة جفاف على الإطلاق عرفتها منطقة كانت تُسمّى في وقت ما “الهلال الخصيب”.
هذه الأعداد مهولة. 100 مليون نسمة.. أي ما يفوق على سبيل المثال عدد سكان ألمانيا أو تركيا أو فيتنام. ولكن هذا العدد لا يمثل سوى جزء صغير مما نتوقعه بارتفاع درجات الحرارة. تتوقع المنظمة الدولية للهجرة أن نشهد نزوح 1.5 مليار شخص من منازلهم بحلول عام 2050. وقد أشارت دراسة تحليلية أنجزها فريق دولي من الأكاديميين عام 2020 إلى إمكانية عيش زهاء ثلاثة مليارات نسمة في مناطق توتّر بسبب الحرارة العالية بحلول 2070.
إن أهم نقطة تجدر الإشارة إليها هنا هي التالية: من يعانون من هذه الأزمات ليسوا هم المتسبّبين فيها. في خضم الجفاف القاتل، لا يكاد إنتاج المواطن الصومالي العادي من الغازات المسببة للاحتباس يبلغ 1/200 مما ينتجه المواطن الأمريكي العادي، فيما ينتج المواطن الهندوراسي 1/15 من إنتاج الأمريكي، أما الفيتنامي فينتج 1/7 مما ينتج الأمريكي. علما وأنّ معظم هذا الكربون ناتج عن تصنيع البضائع التي تُصدَر إلينا (في الولايات المتحدة). في المقابل، أنتجت الولايات المتحدة وحدها ربع انبعاثات الغازات الدفيئة في العالم، وهي التي تضم 4% فقط من سكان العالم حاليا. سيظل الكربون الذي أطلقته خلال التحول الصناعي منتشرا في الجو طيلة قرن أو أكثر. ولن يقترب أي بلد -حتى الأكثر كثافة سكانية مثل الصين- من مستوى انبعاثاتها. الأمريكيون هم المتسببون في مجاعة الصومال، وأعاصير الهندوراس، وفيضانات فيتنام وباكستان. ولأنّ الكثير من أهل الصناعة والسياسة قد أدركوا عواقب حرق الوقود الأحفوري منذ عقود، فيجوز بالتالي القول أن أزمة تغير المناخ جريمة يرتكبها الأمريكيون.
الأمريكيون هم المتسببون في مجاعة الصومال، وأعاصير الهندوراس، وفيضانات فيتنام وباكستان. ولأن الكثير من أهل الصناعة والسياسة قد أدركوا عواقب حرق الوقود الأحفوري منذ عقود، فيجوز بالتالي القول أن أزمة تغير المناخ جريمة يرتكبها الأمريكيون.
اليمين المتطرف والفاشية البيئية
في كتابها “Border and Rule” تبسط الناشطة والكاتبة الكندية هارشا واليا نتائج دراسة حالة عدة بلدان، وتشير إلى التالي: بلدا تلو الآخر، وظّف السياسيّون اليمينيون مخاوف الناس من عبور المهاجرين الحدود لدعم أكثر الحكومات رجعية. جدير بالذكر أن دونالد ترامب قد أطلق حملته الانتخابية بتصريحات حول “المغتصبين المكسيكيين”، أما خطابه المخجل حول القادمين مما أسماه “حثالة الدول” إلى الولايات المتحدة للاستيلاء على وظائف الأمريكيين فقد حظي بدعم الناخبين المسحوقين.
نلاحظ نفس الديناميات في جميع أنحاء العالم، فالأحزاب اليمينية في أوروبا استخدمت حوادث التحرش الجنسي في محاولة لتحريض النساء ضد المهاجرين. يجب كذلك أخذ مسألة الفاشية البيئية الناشئة حديثا على محمل الجد. فمثلما أوردت واليا، قال المسلّح اليميني المتطرف الذي قتل 23 شخصا في فضاء تجاري بمدينة إل باسو عام 2019 في بيان نشره على الإنترنت: “إذا استطعنا التخلص من عدد كاف من الأشخاص، فإن نمط حياتنا يمكن أن يصبح أكثر استدامة.” وفي فرنسا، تقوم حملة حزب الجبهة الوطنية لمارين لوبان على ما تطلق عليه واليا اسم “التوطين البيئي”، حيث تتم مقارنة المهاجرين بفصائل من النباتات والحيوانات الأجنبية الغازية، وتُطرح خطابات من قبيل: “الحدود أكبر حليف للبيئة، ومن خلالها سننقذ الكوكب.”
أين المفرّ؟
تشير واليا إلى أن أغنى بلدان العالم قد بدأت ترزح تحت ضغوط أخرى، ليس تأثيرها بخطورة تأثير أزمات المناخ على النصف الجنوبي للكرة الأرضية، ولكنها ما تزال جدية بما يكفي. هذه المجتمعات تتهرم بسرعة كبيرة بسبب انخفاض نسب الولادة (من الملفت أن تباع حفاضات المسنين في اليابان بكميات تفوق حفاضات الأطفال). وفي الآن ذاته، فإن الكثير من البلدان المتضررة من التوتر المناخي وتهديدات أخرى مثل الأنظمة القمعية تضم أعدادا كبيرة من الشباب العاطل عن العمل والرازح تحت الفقر، وهذا يمثل أرضية خصبة لإثارة النزاعات. إنشاء مسارات آمنة لتفريغ هذه البلدان سيساعد هؤلاء الأشخاص على المضي قدما في حياة مثمرة، وسيساعد كذلك الدول التي يحلون بها في الحفاظ على نوع من التوازن بين نسبة الشباب من جهة ونسبة كبار السن من جهة أخرى. حين قبلت ألمانيا على سبيل المثال مليون لاجئ سوري، لم تكن تلك “استجابة كريمة لأزمة إنسانية” فقط، بل و”قرارا اقتصاديا حكيما” كذلك:
البلاد في حاجة إلى سد نقص اليد العاملة الناتج عن تناقص ساكنيها من المهاجرين الأتراك اللذين عاد الكثير منهم إلى وطنهم خلال انتعاشه الاقتصادي. استغلت السويد أيضًا الفرصة لإحياء قراها الخالية من السكان، بإعادة فتح المدارس ونوادي كرة القدم. و تبقى أكبر مخاوف تواجهها السويد هي رحيل هؤلاء المهاجرين وعودتهم إلى سوريا.
تزدري واليا مثل هذه المشاريع، وترى أن برامج مثل البرنامج الألماني الذي سوقت له أنجيلا ميركل تحت شعار (سنتدبر الأمر – !Wir schaffen das) تضع التطوع الإنساني في المركز وتظهر الأوروبيين في ثوب المنقذين، فيما يُثقَل كاهل اللاجئين بانتظارات التعبير عن امتنانهم. ثقافة الترحيب الليبرالية تمحو آثار التواطؤ الأوروبي في مسألة التهجير عبر الاستعمار الاستيطاني، وسرقة الأراضي، والعبودية، والاستغلال الرأسمالي، واستغلال العمال، والتربّح من الحروب. وترى أنه من الأفضل فهم الهجرة كجبر أضرار. وبناء على مصداقية سردها التاريخي للقمع، أعتقد أنها على حق من الناحية الموضوعية. لكن أكثر ما أخشاه أن هذا الشد والجذب بين الليبراليين والراديكاليين بخصوص حلول الهجرة ستتم الإطاحة به في السنوات المقبلة. إذا كان مصممو النماذج المناخية أقرب للصحة، فإن ما بين المليار والثلاث مليارات ممن يحاولون المضي بعيدا عن ارتفاع درجات الحرارة والجفاف، وبعيدا عن المدن التي تغمرها الفيضانات، سوف يخلقون واقعهم الجيوسياسي الخاص. الحد من ارتفاع حرارة الكوكب بتسريع بناء ألواح الشمسية ومحركات الرياح سيحد بعض الشيء من حجم الاضطراب، لكنه لن يحول دونه في هذه المرحلة.
قدرتنا على التعامل بشيء من الإنسانية مع كوكب في طور التحول ستحدد ما سيكون عليه القرن القادم. يجب أن يتأقلم العالم وإلا فسوف يتحطّم.