برهان هلّاك
نهى سعداوي
المصدر: The New Yorker | الكاتب: أليكسيس أوكيوو | تاريخ النشر: 16 جانفي/يناير 2023
اجتازت ناسنيت ألمي وايلدميكائيل أربع دول، عن طريق البر أو البحر، وقضّت شهرا في سجن للمهاجرين، قبل وصولها إلى ألمانيا عام 2015. كانت صغيرة البنية، بخدّين مكتنزين وشعر مجعّد، تبلغ من العمر 23 عاما. ترعرعت في بلدة صغيرة غربي إريتريا بوصفها الطفلة الرابعة من بين عشرة أطفال. توفّي والدها وهي لا تزالُ صغيرة، لتتولّى أمها، التي كانت تعمل غسّالة، تربية الأطفال بمفردها. ورغم الخصاصة وضيق الحال، رفضت الأمّ السماح لأطفالها بالعمل. كانت حياة وايلدميكائيل المنزلية سعيدة. كانت مولعةً بالسيارات، وتطلّعت إلى أن تصبح ميكانيكيّة، لكنّ فرص تلقيها التعليم اللازم انعدمت أو كادت، ليبقى مستقبلها في مهبّ رياح اللاّيقين.
وقعت وايلدميكائيل في حب جارها بينيام عندما كان عمرها 16 سنة، وسرعان ما حملت، وأنجبت ابنهما يافيت عام 2008. حضر بينيام حفل تعميد ابنهما ووعد وايلدميكائيل بالزواج، لكنه غادر نحو السودان قبل أن يبلغ يافيت عامه الأوّل، ليكون ذلك أوّل عهد وايلدميكائيل بالحسرة وانفطار القلب. بينيام لم يشرح لها قطّ أسباب مغادرته نحو السودان، فيما ترجّح هي أنّه لم يكن مستعدا لتحمّل مسؤولية الأبوّة، وفضّل الهروب من القمع في إريتريا. فزعيم البلاد أسياس أفورقي متهم بارتكاب عدة انتهاكات في حق الإرتريين، بما في ذلك المراقبة الجماعية والاعتقال التعسفي والتعذيب والخدمة العسكرية الإلزامية طويلة المدى.
يتعيّن على الإريتريين الحصول على تأشيرة خروج لمغادرة البلاد، نادرا ما تمنحها لهم الحكومة. وهذا يعزّز شعور الكثيرين منهم بكونهم محاصرين. وفقا للأمم المتحدة، يحاول حوالي خمسة آلاف شخص شهريا مغادرة البلاد بشكل غير قانوني، ما يعرّضهم لمخاطر جمّة. (نفت الحكومة الإريترية ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان). شقيق وايلدميكائيل اضطر في الـ16 من عمره إلى الانخراط في الخدمة العسكرية، حيث يعاني المجندون من العمل القسري والأجور المنخفضة والتعرّض للأذى الجسدي، فيما يواجه من يحاول الفرار من التجنيد عقوبة السجن أو القتل عند القبض عليه. أخبرتني وايلدميكائيل أنّها “رفضت أن يلتحق ابنها بالجيش”. فأخذته وغادرت إريتريا وهي في سن الـ18، وسارت ثلاثة أيام عبر الصحراء للوصول إلى السودان.
يتعيّن على الإريتريين الحصول على تأشيرة خروج لمغادرة البلاد، نادرا ما تمنحها لهم الحكومة. وهذا يعزّز شعور الكثيرين منهم بكونهم محاصرين. وفقا للأمم المتحدة، يحاول حوالي خمسة آلاف شخص شهريا مغادرة البلاد بشكل غير قانوني، ما يعرّضهم لمخاطر جمّة.
طريق أوروبا تبدأ من السودان
في العاصمة الخرطوم، عملت وايلدميكائيل 6 سنوات نادلة تقدّم الشاي في مقهى. وقد عاش بينيام أيضا في نفس المدينة، دون أن يكون له وجود في حياة ابنه يافيت. كان كلا الأبوين، وايلدميكائيل وبينيام، مهاجرين “غير نظاميين”. وهو وضع محفوف بالمخاطر، خاصة وأنّ أجهزة الأمن السوداني قد دأبت على اختطاف الإريتريين الذين يعيشون في الخرطوم لترحيلهم إلى بلادهم. غادر بينيام السودان بحلول ربيع العام 2013، وهو في سن السادسة والعشرين، لتكتشف وايلدمايكل اختفاءه لاحقا في ذات العام. كان يراسل أصدقاءه طوال رحلته، لكنّ رسائله انقطعت بعد ركوبه قاربا من ليبيا متّجهًا إلى إيطاليا.
وبعد ذلك بوقت قصير، في الثالث من أكتوبر تحديدا، غرق قارب صيد متهالك مكتظ بالمهاجرين قبالة ساحل جزيرة لامبيدوزا الواقعة في أقصى جنوب إيطاليا، وكان أغلبهم إريتريين. عثرت السلطات على رفات 366 شخصا في الحطام. وانتشرت صور الضحايا المحتملين بين الجالية الإريترية في الخرطوم. لمحت وايلدميكائيل شخصا يشبه بينيام، فانتابها الحزن. قالت: “لقد آذاني بالفعل، ولكنني أحببته”. وأضافت: “نشأت بلا أب، ولم أرغب في أن يكبر ابني بلا أب كذلك”.
بعد عامين، قرّرت وايلدميكائيل بدورها محاولة بلوغ أوروبا. وقالت: “كنتُ أدرك صعوبة السفر من السودان إلى ليبيا، خاصة إذا كان المسافر امرأة. وكنت أعلم بموت الناس في عرض البحر عند محاولتهم الوصول إلى أوروبا. لقد كنت واعية بكل شيء، واتخذت قراري رغم ذلك”. أرادت وايلدميكائيل جني المال لإرساله إلى أمّها في إريتريا، وسعت إلى منح يافيت فرصا لم تحظ بها. حدثتني عن توقها لمزاولة دراستها والحصول على وظيفة، وحياة طبيعية”. حينئذ، قرّرت ترك يافيت ذي الستة أعوام رفقة صديق للعائلة في الخرطوم. شعرت مجددا باللّوعة وانفطار القلب، لكنها كانت مضطرّة لذلك من أجل مصلحة ابنها، فقد سبق وعرفت امرأة غرقت مع أبنائها في البحر. وظنت وايلدميكائيل أنها إذا ما تحصّلت على حق اللجوء في أوروبا، بات التئام شملها مع يافيت على الأراضي الأوروبية ممكنا.
“كنتُ أدرك صعوبة السفر من السودان إلى ليبيا، خاصة إذا كان المسافر امرأة. وكنت أعلم بموت الناس في عرض البحر عند محاولتهم الوصول إلى أوروبا. كنت واعية بكل شيء، واتخذت قراري رغم ذلك”
شقّت وايلدميكائيل طريقها عبر صحراء الساحل، سالكة طريقا مات فيه العديد من المهاجرين جوعا أو عطشا. وهي طريق معروفة بكثرة العنف الجنسي إلى درجة أن بعض النساء يتناولن موانع الحمل قبل شروعهنّ في مثل هذه الرحلة. في ليبيا، أُودِعت وايلدميكائيل مركز احتجاز في طرابلس حيث يُطعم الحراس السجناء مرة واحدة في اليوم، ويضربون المحتجزين الذكور بشكل متكرّر. أُطلق سراحها بعد شهر، ثم دفعت نحو 2000 دولار للصعود على متن قارب متّجه إلى إيطاليا. قالت وايلدميكائيل: ” عندما كنت في القارب، ظننتُ أني لن أطأ اليابسة مرة أخرى. ولكني وصلت وللّه الحمد”. واصلت طريقها إلى ألمانيا، حيث حصلت في نهاية المطاف على حق اللجوء، وعلى تصريح إقامة لمدة عامين قابلة للتجديد. انتقلت إلى بلدة فاخا الهادئة وسط البلاد، والتحقت بفصول تعليم اللغة الألمانية. وكوّنت صداقات مع جاريْن لها، وهما زوجان ألمانيان مسنّان أعاناها على شراء حاجياتها من محلّ البقالة. قالت وايلدميكائيل: “شعرت أنني امتلكت حرّيتي”.
طريق صحراء الساحل محفوفة بالمخاطر إلى درجة أن بعض النساء يتناولن موانع الحمل قبل خوض الرحلة
عند اتصالها بالسفارة الألمانية في الخرطوم لترسل وراء يافيت، بلّغوها أن الأمر غير ممكن، فالقانون الألماني يشترط موافقة والد الطفل، أو شهادة تثبت وفاته. والحال أنه نادرًا ما يتم العثور على رفات المهاجرين الذين لم ينجوا من الرحلة إلى أوروبا وحتى إن عثروا على رفات بعضهم فإنه من الصعب التعرّف على هويّاتهم، كما أنها لا تملك دليلا يثبت وفاة بينيام. وكّلت وايلدميكائيل محاميا أخبرها أنه في ظل غياب وثائق تثبت وفاة والد ابنها، فليس باستطاعتها فعل الشيء الكثير. عندما قابلتها العام الماضي، لم تكن وايلدميكائيل قد رأت ابنها يافيت ذا الأربعة عشر عاما منذ حوالي 8 سنوات، ولا تملك من وسائل الاتصال به غير مكالمات الفيديو التي يتبادلانها بشكل يوميّ. كانت ترسل 300 يورو شهريًا إلى السودان لتلبية احتياجاته، بما في ذلك دفع أجرة مدرس خاص، لأنه لم يتمكن من الالتحاق بالمدرسة باعتباره مهاجرا “غير نظامي”. قالت لي: “إنه حقًا فتى ذكي… يدرس يوميا ويتعلّم بسرعة.” وقد سألها مؤخرًا إن كان بإمكانه خوضه الرحلة الخطرة عبر البحر الأبيض المتوسط ، حتّى يلتحق بها.
السياسة الإيطالية في مواجهة أزمة المهاجرين المفقودين
أصبح البحر الأبيض المتوسط وشواطئ إيطاليا ومالطا وقبرص واليونان مقبرة مترامية الأطراف خلال العقد الماضي. حاول أكثر من مليوني شخص عبور البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا منذ عام 2014، معظمهم من إفريقيا جنوب الصحراء والشرق الأوسط، وذلك بسبب الصراعات والقمع والظروف الاقتصادية والمجاعة والجفاف. عدد المهاجرين المفقودين لا يقل عن 25000 [ارتفع الرقم إلى 28 ألفا بتاريخ 27 سبتمبر 2023]، يُفترض أنهم قد لقوا حتفهم. وفيما لا تزال معظم هذه الجثث في قاع البحر، جرفت الأمواج بعضها إلى الشواطئ لتتمّ مواراتها في قبور مجهولة (2000 قبر في إيطاليا وحدها). ولا يبقى لأقارب المهاجرين المفقودين إلا منشورات أحبّتهم على وسائل التواصل الاجتماعي ومحادثات نصية غير مكتملة جمعتهم. “ماذا عن العائلات؟” يتساءل منسق الطب الشرعي في اللجنة الدولية للصليب الأحمر في باريس، خوسيه بابلو بارايبار. ويعود ليستدرك قائلا: “لا أحد يملك إجابة هذا السؤال”.
حاول أكثر من مليوني شخص عبور البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا منذ عام 2014، معظمهم من إفريقيا جنوب الصحراء والشرق الأوسط، وذلك بسبب الصراعات والقمع والظروف الاقتصادية والمجاعة والجفاف. عدد المهاجرين المفقودين لا يقل عن 25000، يُفترض أنهم قد لقوا حتفهم.
تنجر تداعيات قانونية عن عدم تسجيل الوفيات، إذ يواجه الأشخاص الذين لا يستطيعون إثبات وفاة القرين صعوبة في الزواج مرة أخرى. كما يواجه أقارب المهاجرين المفقودين تحديات عند رفع دعاوى مدنية أو جنائية ضد المهربين المتهمين بتحميل القوارب أكثر من طاقتها أو باستخدام قوارب متهالكة ومعطوبة. كذلك يستعسر على العائلات محاسبة الحكومات عندما تكون هذه الأخيرة مسؤولة. فعندما حاول حوالي ألفي مهاجر ولاجئ من السودان ودول أفريقية أخرى تسلق السياج الحدودي بين المغرب ومليلية الإسبانية في أواخر جوان/يونيو 2022، أصيب العشرات جرّاء التدافع. إذ عنّفتهم قوات الأمن المغربية بوحشية وأطلقت عليهم الرصاص المطاطي.. كما أطلق عليهم الحراس الإسبان الغاز المسيل للدموع على الجانب الآخر من السياج. قُتِلَ ما لا يقل عن 23 شخصًا، وتم الإبلاغ عن فقدان 77 آخرين [ارتفعت الحصيلة لاحقا إلى 37 قتيلا]. وقد نشرت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان في الأيام التي تلت تلك الحادثة صورا على تويتر تظهر قبورا محفورة حديثا، زاعمةً أن الحكومة تخطط لدفن المتوفين دون التعرف عليهم، أو تنبيه أسرهم، أو حتى التحقيق في أسباب وفاتهم. (ذكرت وزارة الداخلية الإسبانية أن قواتها الأمنية والقوات المغربية “تصرفت بشكل مناسب ومعتدل”).
يسمّي الأطباء النفسيون الألم العاطفي الناجم عن عدم معرفة ما إذا كان أحد الأحبّة قد توفّي بـ”الخسارة الغامضة”
يسمّي الأطباء النفسيون الألم العاطفي الناجم عن عدم معرفة ما إذا كان أحد الأحبّة قد توفّي بـ”الخسارة الغامضة”. إذ يعاني أفراد الأسرة من ألم ناتج عن إدراكهم أن أحد الأحبة على الأرجح قد لاقى حتفه، ولكنهم محرومون من طقوس الحداد، أي الجنازة والدّفن، التي تتيح لهم المضي قدمًا. أخبرتني مارزيا مارزاغاليا، وهي طبيبة نفسية تعالج المهاجرين في ميلانو: “من وجهة نظر إكلينيكية، تشبه أعراض الخسارة الغامضة تمامًا الأعراض التي تظهر على أشخاص تعرضوا للتعذيب”. غالبا ما يعاني أولئك الذين يعيشون ألم الخسارة الغامضة من اضطرابات في النوم والأكل، ومن الكوابيس. يشعرون أنهم في خطر، ويرزحون تحت ثقل التفكير الهوسيّ والألم الجسدي. ويمكن أن تؤدي الخسارة الغامضة أيضًا إلى الاكتئاب، وإدمان الكحول. كما تم ربطها بأمراض كالسرطان، واضطرابات الجهاز الهضمي، والأمراض المناعية. قالت مارزاغاليا: “أتابع حالة أم أطفالها الثلاثة من المهاجرين المفقودين. لم ترَهم يموتون على متن القارب. كانت قد سافرت برفقتهم ولكنها وصلت بمفردها. وهي ما تزال تبحث عنهم”.
“لا يمكن لإيطاليا قبول عشرات الآلاف من المهاجرين الذين لا يجلبون سوى المشاكل. إيطاليا ليست مخيّما للاجئين في أوروبا”.
ماتيو سالفيني، وزير الداخلية الإيطالي الأسبق
يتحجّج السياسيون المحافظون بكون المهاجرين يعبرون البحر باختيارهم، وهم على علم بالعواقب المحتملة. وترى العضوة الألمانية في البرلمان الأوروبي، لينا دوبونت (Lena Düpont)، أنّ إنفاق الأموال على جهود منع الهجرة في المقام الأول أجدى، بما في ذلك الاستثمار في التنمية في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ومواصلة الشراكات مع خفر السواحل الليبي لمنع المهاجرين من بلوغ أوروبا. قالت دوبونت: “هذا لا يعني أننا لا نهتم بالغرقى في البحر الأبيض المتوسط”، مضيفة لاحقا: “نسعى إلى وضع حدّ لظهور الجثث على شواطئ اتحادنا (الأوروبي)… نحن بحاجة إلى التركيز على توفّر أدوات مناسبة ونظام فعال لمنع تلك الوفيات، نظرا لمحدودية مواردنا على المستوى الأوروبي.”
في الأثناء، تجتاح المشاعر المعادية للمهاجرين أوروبا. فقد كان شعار “أوقفوا الإنزال (Stop landings)” شائعًا خلال الانتخابات الإيطالية العام الماضي، والتي أسفرت عن انتخاب القومية اليمينية المتطرفة جورجيا ميلوني رئيسة للوزراء. كما صرّح وزير الداخلية الأسبق، ماتيو سالفيني، قبيل أيام من إحدى زياراته إلى لامبيدوزا: “لا يمكن لإيطاليا قبول عشرات الآلاف من المهاجرين الذين لا يجلبون سوى المشاكل. إيطاليا ليست مخيّما للاجئين في أوروبا”.